من ذكريات باريس

في 11 شباط 1934

   كانت الساعة الثانية بعد ظهر الأحد لمّا تركت رصيف نهر "السين" الأيمن واجتزت الشارع إلى ساحة "قصر اللوفر" الرحبة. دفعني حبّ التفرّج والاستطلاع والحشريّة أن أسير عوضًا عن ركوب المترو للذهاب إلى متحف "غيميت" حيث أحظى بسماع إحدى المحاضرات التي يلقيها هناك بعض علماء فرنسا في كلّ أحد من هذه السنة.

   سرت بين تلك الأشجار العالية العابسة العارية، فلم يلفت نظري في هذه المرّة سوى الفتيان والفتيات يلعبون في الطابة والمضارب في أيديهم والحماس آخذ منهم مأخذًا فترى خدود الآنسات كالرمّان لونًا، يركضن ويقفزن بخفّة الغزلان ويجرين وراء الطابة فينحنين إلى الأرض وينهضن بسرعة لا تعيقهنّ خصورهنّ الرقيقة، كأنّما يردن أن يبرهنّ لرفيقهنّ أنهنّ قادرات على الصراع في كلّ الميادين.

   لم أتأخّر حتّى تركت هؤلاء اللّاعبين فوصلت إلى ساحة الكونكورد. هي أجمل ساحات باريس على الإطلاق، تزيّنها تلك المسلّة الحجريّة المصريّة التاريخيّة العجيبة، والتماثيل ونوافر الماء ومنارات الكهرباء العديدة ليلًا. رأيت في تلك الساحة جماعات جماعات يحطن بالتماثيل المنصوبة فيها، فاقتربت منهم ورأيتهم يشيرون بأيديهم وعلامات العجب بادية على وجوههم، فأدركت أنّ السبب في ذلك آثار كلل الرصاص التي انطلقت من أفواه بنادق ومسدسات الجند في ليلة 6 شباط 1934 وذهب ضحيّتها عدد غير قليل، أكثرهم لا شكّ أبرياء، فأثّر هذا المشهد فيّ وقلت: إنّ المدنيّة والعلم وفظائع الحرب الكبرى لم تورث ابن فرنسا إلّا بغض الفعال وشبح الحرب وسفك الدم، فهو يقتل أخاه كأنّه عدوّ له لمظاهرة قام بها من لا يملكون من أدوات القوة إلّا أيديهم وألسنتهم.

   وقفت برهة قرب الأثر المصريّ الخالد في وسط تلك الساحة أتلفّت يمنة ويسرة، جماهير كالنمل يروحون ويجيئون، وسيّارات لا عدّه لها تجري متسابقة في جهّات مختلفة، لا يمكنك أن تميّزها بسهولة لكثرتها، فالراجل يجب أن تكون عيناه مفتوحتين وعقله يقظًا كي لا يعرّض فخّارته الغالية للكسر. هناك قرب أحد التماثيل رأيت فتاة من ذوات العيون المقوّسة، في يدها ريشة تصوّر فسقيّة1 ماء متغمّرة2، فاستوقفني فنّها مع قبح صورتها، وقلت "ماذا عسى أن تفيد الفنّ تلك المخلوقة الصفراء". وتابعت المسير في شارع "الشانزليزيه" الفسيح، ورأيت الناس على رصيفيه أفواجًا أفواجًا من ذكور وإناث، هذا يترقّب فتاة وهؤلاء يتحدّثون في سياسة فرنسا الحرجة، وهذه مخاصِرة صاحبها، وتلك تصيح بابنها المفلت منها خوفًا عليه من بعض الشرور، وهذا يقبّل فتاة حسناء ولا يعرف الحياء، وهؤلاء فتيات عدّة جميلات الأنوف ظريفات الخدود، ساحرات العينين، ممشوقات القدود، دقيقات الخصور، مزجّجات3 الحواجب، بعضهنّ حليقاتها ذوات أهداب حريريّة صناعيّة، وشفاه كالعنّاب الغامق في حمرته، ملابسهنّ جميلة مرتّبة حسنة الهندام، منهنّ جذّابات فاتنات ومنهنّ لا يساوين الحمرة والمساحيق والثياب المزيّنات.

   ألوف مؤلّفة من الناس بحركة دائمة ولكن لا ضوضاء ولا صياح، كأنّهم في خشوع وفي تفكير صامت لما حدث في عاصمتهم ولما يتوقّعون حدوثه. استوقف الناس بعض واجهات الزجاج والأبواب التي كسرها المتظاهرون في اليوم المذكور، وهو عمل بربريّ، عُزِيَ إلى متطرّفي الشيوعيّة وهو لا يقدم عليه أشدّ الناس توحّشًا إلّا ويبكيه ضميره.

   وهؤلاء الرعاع الجهلة يسيئون حقًّا إلى سمعة المدنيّة وسمعة فرنسا وسمعة الشيوعيّة، إن كانوا حقًّا من أتباعها. وإذا كانت من مبادئ الشيوعيّة الهدم والتخريب والتكسير فأنذر أتباعها بعدم ثباتها وهبوطهم عاجلًا أو آجلًا، ونظام الحكم الحاضر مع مساوئه أفضل من نظام غايته التدمير.

   لمّا وصلت إلى قرب قوس النصر، التفتّ إلى الوراء فرأيت الناس كأنّهم جيوش لا يحصيها عدّ ولا تحصرها عين. إنّما هذه الجيوش لا تدبّ في القلوب الذعر لأنّها مؤلّفة من الجنسين، يليّن أحدهما الآخر وينزع شيئًا من طبعه الوحشيّ وهم يتنزّهون مثلي ويضيّعون الوقت، والوقت يضيّعهم ويقرّبهم من حافات الأجل.

   التفتّ إلى الشمس الميمّنة فعجبت من لونها الأصفر الشاحب، فهي تبدو من خلال تلك الأشجار والضباب كأنّها انتابتها علّة... لأنّي لم أعهدها في بلاد الشرق، بلغ منها الضعف هذه الدرجة، فهي تشبه طاسة نحاسيّة حمراء مائلة إلى الصفرة لا نور لها ولا شعاع، أو كأنّها خجلت من فضائح باريس فأرادت أن تستتر ممّا ينكّس الطرف حياءً، وغضبًا على سكّانها، فلم ترد أن تمتّعهم بنورها وأشعّتها المطهّرة من الجراثيم الفاسدة المنتشرة في ظلمات تلك المدينة التي لا تعرف أكثر أيّام السنة سوى أنوار الكهرباء.

                                             يوسف س. نويهض

1- فسقيّة: حوض من الرخام فيه نافورة.

- متغمّرة: الماء يعلوها ويغطّيها.2

- زجّجت حاجبها: رقّقته وطوّلته.3